الفرق كبير بين «ثقافة العيش» لدى جيلين، جيل الأمس وجيل اليوم، والفرق أكبر بكثير بالنظر إلى واقع الهدر والإسراف والتشتت والضياع المادي والاجتماعي الذي يعاني منه شباب هذه الأيام من كلا الجنسين، خاصة وإن تعلق الأمر بثقافة الشراء والبحث عن الأشياء النوعية والثمينة..
و«اللف والدوران» حول آخر مستجدات السوق، أو باللهجة المحلية الدارجة؛ شراء سلع يحتاجونها أحياناً ولا يحتاجونها غالباً بنبرة «من الوكالة» أو «ريحة الوكالة» أو «بقراطيسها».. تلك ثقافة أعيت جيوب الشباب وأبقت مستقبلهم ضبابياً إلى حد بعيد.
واقع شراء الجديد، والنأي بالنفس عن المستعمل أو الأقل سعراً، عادة تؤرق مجتمع الشباب الإماراتي والعربي أحياناً، وتستنزف من أحلامهم سنوات طويلة، وهم يقبعون تحت مغبة الإسراف بلا جدوى، دون تخطيط أو إدراك لما يجب فعله للمستقبل، لذلك ارتأينا الخوض في تفاصيل حياة الشباب الشرائية، والمغريات النفسية والاجتماعية والثقافية، التي تزج بهم في دائرة الإسراف بلا رقيب، بداعي الحفاظ على «البريستيج» أو التقليد أو الخوف من كلام الناس.
المحيط الاجتماعي
في البداية أكد الشاب خالد بالهول أن جيل اليوم يتأثر كثيراً بمحيطه الاجتماعي والمادي، فالواقع المعيشي في دولة الإمارات مرتفع جداً، والفقير يمتلك سيارة وربما أكثر، والمشكلة أن المجتمع الإماراتي منقسم إلى فئتين الأولى دخلها مرتفع كثيراً والثانية متوسطة أو أقل، ونظراً لقلة عدد السكان فإن تفاصيل كثيرة من حياة المجتمع أصبحت قريبة من الجميع بحكم التقارب في بيئة واحدة..
وبالتالي بات الشاب عرضة للانكشاف المادي وربما الخجل والتردد من الظهور أمام الآخرين، أو مجاراة واقع المقتدرين، وهنا تكمن المشكلة والتي تتمثل في التقليد والانجرار وراء الماديات من باب «الخقة» الزائدة.
وأشار بالهول إلى نماذج شبابية تقع في مطب الديون ودوامة الاستقطاع الكبير من المرتب الشهري، لدرجة أن يذهب أكثر من نصف الراتب قسطاً لسيارة فارهة، وبالتالي يجد هذا الشاب نفسه محاطاً بمتطلبات لم تكن في الحسبان، موضحاً أن البنوك في الدولة تسهل كثيراً على الشباب المواطنين فكرة الانغماس في القروض، وتمنحهم امتيازات تحفيزية استثنائية، وذلك سبب آخر لجر الشباب إلى مستنقع الديون لدرجة إرهاق مستقبله بما «لا يغني ولا يسمن من جوع».
المستعمل و«البريستيج»
من وجهة نظر الشاب عبدالله الحسام، فإن الثقافة السائدة بين جيل الشباب بنسبة كبيرة، هي شراء كل جديد وأحدث طراز من كل المسميات، والمستعمل أو القيمة الأقل يظل خارج حسابات الكثيرين...
والسبب «البريستيج» كما يدعون، منوهاً بأن ثقافة البحث عن البديل الأفضل لدينا، لا تشمل المستعمل أو حتى الماركات الأقل قيمة، على عكس ما هو سائد في دول العالم المتقدم، ففي نيويورك مثلاً هناك أسواق للمستعمل يقبل عليها الجميع، بسبب أنها توفر عليهم إنفاق الأموال على سلع جديدة متتالية، وتحافظ من جانب آخر على البيئة بتقليل التصنيع من زاوية الحفاظ على الموارد والاستدامة.
خيمة مستعملة
عندما قرر الشاب محمد إبراهيم وأصدقاؤه، إقامة خيمة خاصة بهم في الشتاء، حرصوا على شراء خيمة مستعملة نظراً لسعرها المنخفض، باعتبارها من الأشياء التي يمكن شراؤها مستعملة مثل السيارة أو بعض قطع الأثاث وسواها من الحاجات الأخرى، موضحاً أن السلعة عندما تكون مستعملة يمكن المساومة عند شرائها وتحفيض السعر بناء على رغبة المالك، بينما أسعار معظم السلع الجديدة غير قابلة للنقاش.
وفي ما يتعلق بشراء السيارات، لفت محمد إبراهيم إلى أنه يمكن للمستهلكين شراء السيارات المستعملة من بعض وكالة السيارات المعتمدة في الدولة مع الحصول على ضمان، إذ توفر بعض الوكالات سيارات مستعملة وتمنح مشتريها ضماناً بناءً على رغبة المستهلك مقابل شروط مالية محددة، مطالباً الشباب بالابتعاد عن شراء السيارات الفارهة والمكلفة، إن كانت القدرة الشرائية لا تسمح بذلك، وهناك شواهد وقصص كثيرة تناولتها وسائل الإعلام تؤكد أن أسباب الطلاق هو تراكم الديون بفعل حالة النهم الاستهلاكي.
25 عاماً
وحدد محمد إبراهيم الفئة العمرية التي تنجرف غالباً خلف شراء الأشياء الجديدة بأنها لا تتجاوز الـ25 عاماً، لذلك يتعين على أولياء الأمور تفعيل دورهم وتوجيه الأبناء نحو سياسة الادخار والابتعاد عن شراء السلع الجديدة بأسعار عالية، واستبدالها بأخرى مستعملة، وكذلك الأثاث المنزلي إن استدعت الظروف المادية للأسرة ذلك..
مشيراً إلى أن وزارة التربية والتعليم مطالبة بتفعيل دورها في توجيه الطلبة نحو تعزيز ثقافة إعادة التدوير، فضلاً عن دور وزارة الاقتصاد في إقرار المزيد من القوانين والأنظمة التي تضمن حق المستهلك عند شراء بعض السلع أو الأشياء المستعملة.
شراء الذهب
واستهجنت حنان آل علي باحثة قانونية، شرط بعض الأهالي والأسر عند عقد الزواج بشراء أنواع متعددة من الذهب الجديد للفتاة، وقالت إنه حري بالآباء والأمهات التخفيف عن الزوج بعدم اشتراط شراء الذهب المرهق والجديد دائماً..
ويمكن للفتاة ارتداء الذهب أو استعارته أثناء حفل الزفاف من أقارب العريس أو العروس عوضاً عن شرائه بمبالغ نقدية ضخمة تتعدى 100 ألف درهم في بعض الأحيان، خصوصاً وأن مراسم حفل الزفاف لن تمتد أكثر من ثلاثة أيام، ثم يحفظ الذهب بعد ذلك في الخزانة بلا استخدام إلا في ما ندر من المناسبات.
وعلى غرار الذهب، أكدت آل علي أنه يمكن للفتاة استبدال الحقائب اليدوية أو الإكسسوارات الأخرى مع شقيقتها أو قريبتها أو صديقتها عند الرغبة في شراء أخرى جديدة، لكن استبدال الملابس يبدو صعباً نسبياً نظراً لاختلاف الأذواق والمقاسات، وعندما يكون الشخص مقتدراً مادياً لا حرج في أن يشتري السلعة الجديدة، أما إذا كان غير قادر فينبغي عدم الوقوع في منزلقات مادية تحت ذريعة وهمية متجسدة في التقليد ومجاراة الواقع.
ضيق اللقاءات الأسرية دفعهم نحو الكماليات
راية المحرزي عضو مجلس إدارة جمعية حماية المستهلك، أوضحت أن الشباب اليوم يمتلكون ثقافة عالية في العلم والمعرفة، لكنهم أقرب إلى الجهل والأمية في إدارة شؤون حياتهم، والسبب اللهث وراء الكماليات والمغريات المادية والمسميات والماركات، دون حساب أو تفكير، فهم حقاً ضعاف النفس عند الشراء، وتلك حقيقة مكشوفة وصريحة، لدى الجنسين الشباب والفتيات على حد سواء.
80 % مسرفون
وأضافت أن الانشغال أو بالأحرى غياب عنصر الوقت في لقاء الأسرة واجتماع الأبوين مع الأبناء، أحدث الفارق في جنوح سلوك الشباب والمراهقين نحو اقتناء مختلف السلع الجديدة والثمينة والمرهقة لجيوبهم، وبالتالي فهم يدفعون الفاتورة من مستقبلهم.
وأشارت إلى أن نحو 80% من جيل الشباب منغمسون في المظاهر والكماليات، ويبحثون دائماً عن كل جديد في السوق، وتفكيرهم منصب على اقتناء الأحدث دون تردد، لافتة إلى النسبة الأقل من شباب هذه الأيام تتمتع بروح القناعة التي تعفيها من الانجرار وراء أمور لا تجلب لهم إلا الحسرة والندم مستقبلاً، لأن القروض هي بالأساس ديون، والدَّيْن لا يترك صاحبه حتى بعد الوفاة، فالمسألة بحاجة حقاً إلى تفكر وتدبر لتخليص الشباب من هذه الثقافة السلبية.
القناعة والمستقبل
وتطرقت المحرزي إلى ضرورة تسليح الأبناء بثقة القناعة لأنها الرادع لهم من الانجرار وراء ماديات الحياة في عمر مبكر، فواقع أبنائنا اليوم محصور في مشهد وحيد: تسوق وشراء ومواكبة كل جديد، في كل شيء تقريباً في السيارات والموبايلات والأجهزة التقنية والملابس والإكسسوارات، مشيرة إلى نماذج من الشباب يتقاضون شهرياً رواتب لا تقل عن 25 ألف درهم..
وعند سؤالهم عن ألف درهم بعد أيام من استلام الراتب لن تجده معهم، والسبب البنوك والديون والإسراف على الكماليات بلا تفكير، فمتى سيبني هذا الشاب أو تلك الفتاة البيت والمستقبل، وكيف سيكون حال أبنائهم؟!.. سؤال بحاجة إلى وقفة مع النفس.
علم التدوير
وأكدت فاطمة سجواني اختصاصية نفسية، وجود علم يطلق عليه «علم تدوير الأشياء»، موضحة أننا بحاجة إلى تعزيز هذه الفكرة، مبينة أن المجتمع وتحديداً الشباب يحتاجون إلى تعزيز هذه الفكرة وترويجها باستمرار للابتعاد عن الرفاهية المفرطة، المتمثلة باستبدال السيارات والهواتف والملابس والعباءات والحقائب وخلافها من السلع والكماليات.
وأضافت أنه يمكن تمديد عمر السلعة إلى فترة أطول بإعادة تدويرها، وعلى سبيل المثال يمكن استبدال أجزاء من قطع القماش في العباءة أو الفستان بقطعة أخرى، أو تغيير غلاف الهاتف الخارجي، وتغيير القماش الخارجي لأثاث البيت، واستثمار الأشياء بهذه الطريقة بما يحفظ الجيوب من الاستنزاف، ويدعم سياسة الادخار.
أسلوب التربية
ونوهت بأنه لا ضير من شراء السلعة الجديدة شرط استخدامها لفترة طويلة، مؤكدة أن العامل الأول في توجيه الأشخاص نحو عدم التبذير وشراء السلع المستخدمة هو أسلوب التربية في البيت القائم على غرس هذه القناعة لدى الأبناء مبكراً، وعدم تعويدهم على الدلال والبذخ والإنفاق بلا حساب.
وأثنت على دور المناهج التعليمية قديماً، في تعليم أبنائنا الطلبة معنى الإدارة الحياتية، إذ تضمن المنهاج في السابق، تدريس علم إدارة البيت، من خلال وحدة كاملة مختصة بتعليم الطلبة ثقافة الإدارة وتنظيم الميزانية وترتيب الأولويات المالية وخلافها من الأمور التي تندرج أسفل سقف الادخار، معربة عن أسفها الشديد إزاء خلو المناهج من مثل هذه العلوم التربوية الخاصة بتعزيز ثقافة الأبناء في الاقتصاد والإسراف ونحو ذلك من السلوكيات الشرائية.
9 سنوات
لتسع سنوات امتلكت راية المحرزي، سيارة «كامري» مستعملة ووحيدة، ظلت تتنقل بها من إمارة إلى أخرى طوال أيام الأسبوع، وبعد هذا العمر أعطت السيارة إلى أحد أبنائها، ثم اشترت سيارة أخرى مستعملة 3 سنوات قبل عمر الوكالة...
ولا تزال تقودها وتؤدي مهام عملها المتشعبة في مختلف مناطق الدولة. تقول المحرزي إنها قادرة على امتلاك أفخم السيارات ولا تريد، لأنها لا تخجل من سيارة تقضي الغرض، مهما كان سعرها أو عمرها، والسبب أنها تشعر بالقناعة في داخلها، ولا تخشَ نظرة المجتمع لأن الثقة سمة بارزة في شخصيتها المعروفة بإنجازاتها وليس بما لديها من ماديات و«ماركات».